حميد سعيد شاعر المدن الدافئة بغجرها السعداء

شارك

يصفه البعض بأيقونة محبة. منذ شبابه المبكر كان شخصية لها دور مميز في الحياة العامة. وهو ما تفاعل معه بطريقة مرنة أبعدت عنه الغرور والتعالي، بل كان بمضيّ الوقت يزداد تواضعا وتسامحا.

الشاعر الذي بدأ ولعه بالشعر من لحظة إعجاب بشعر المهجريين كان في انتظار اللحظة التي يمتزج فيها بشخصية الموريسكي الذي يحن إلى أندلسه التي يعرف أنها انتقلت من الواقع إلى الأسطورة.

الشاعر العراقي حميد سعيد كتب الشعر مدفوعا برغبته في أن يمزج الأسطوري بالواقعي. ذلك ما دفعه إلى استلهام شخصيات مغامرة، بعضها ينتمي إلى التاريخ والبعض الآخر اخترعه خيال الكتابة كما هو حال أوليس العائد إلى إيثاكا.

ربما يُخيل إلى البعض أن سعيدا هو شاعر ملتزم بالمعنى السياسي استنادا إلى الوظائف التي تقلدها في العراق يوم كانت هناك دولة. تلك فكرة مسبقة سرعان ما يتخلى عنها المرء حين يقرأ شعره.

صحيح أنه كتب عن قضايا مصيرية تهم الأمة العربية غير أنه لم يكتب ذلك من منطلق سياسي. كانت إنسانيته هي المنجم الذي يستخرج منه ألعابه اللغوية التي يمتزج فيها الحس العاطفي برغبة عقلانية في الذهاب إلى جوهر المعنى.

يقول الشاعر “منذ البدايات، وما زلت أشرع أبواب الحياة ونوافذها للقصيدة وهي تتشكل من الماضي والحاضر، العربي والأجنبي، الشفهي والكتابي، الواقعي والأسطوري ومما أسمع وما أرى، من الشعري والنثري. من كل هذه المرجعيات أفدت وبها كلها”.

لم يكن موقفه من رواد القصيدة العربية الحديثة قائما على القطيعة مثلما فعل الآخرون من أبناء جيله. فعل العكس تماما فكان عالمه تطويرا لعوالمهم محتفظا بالشعري العميق من تجاربهم.

سيرة رجل ذاهب إلى منفاه

أغنى مراحل سعيد هي تلك التي عاشها بعيدا عن وطنه، بين إسبانيا والمغرب وأخيرا في الأردن
أغنى مراحل سعيد هي تلك التي عاشها بعيدا عن وطنه، بين إسبانيا والمغرب وأخيرا في الأردن

 

ولد حميد سعيد هادي عام 1941 في محلة الوردية بمدينة الحلة. درس اللغة العربية في جامعة بغداد وعمل في تدريسها لوقت قصير ومن ثم انتقل إلى العمل في الشأن الثقافي ومن ذلك عمله مستشارا صحافيا في سفارتي بلاده في مدريد والرباط ما بين عامي 1972 و1977.

ترأس تحرير عدد من الصحف العراقية وأدار مؤسسات ثقافية عديدة. عام 1969 انتخب أمين سر الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق ثم تولى رئاسته ما بين عامي 1980 و1986.

أصدر عام 1968 كتابه الشعري الأول “شواطئ لم تعرف الدفء”. بعده أصدر أكثر من ثلاثين كتابا بين الشعر والدراسات النقدية ومن أكثر كتبه الشعرية انتشارا “لغة الأبراج الطينية” “الأغاني الغجرية” “مملكة عبدالله”. كما نشر في أدب الرسائل كتابا مشتركا مع صديقه الشاعر سامي مهدي بعنوان “عشرون رسالة ورسالة”. ذلك كتاب فريد من نوعه.

منحه الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات الشاعر وسام القدس عام 1990. ومنذ أن احتل الأميركان العراق وسعيد يقيم في عَمان. يكتب أحيانا مقالات ثقافية في الصحف العربية. وفي المقابل فقد صدر عدد من الكتب النقدية عن تجربته الشعرية.

 

نبوءة الموريسكي

منذ أن احتل الأميركان العراق وسعيد يقيم في عَمان. يكتب أحيانا مقالات ثقافية في الصحف العربية.
منذ أن احتل الأميركان العراق وسعيد يقيم في عَمان. يكتب أحيانا مقالات ثقافية في الصحف العربية

 

أغنى مراحل سعيد وأكثرها احتواء على التحولات التقنية والعاطفية هي التي تلك التي عاشها بعيدا عن وطنه. مرحلتان لعبتا دورا عظيما في تطوير قصيدته. المرحلة الأولى هي تلك التي عاشها بين إسبانيا والمغرب. والثانية هي التي لا يزال يعيشها منفيا في عمّان.

في المرحلة الأولى عثر على ذلك الموريسكي الذي صار يرافقه عبر سني حياته كما لو أنه نبوءة لما سيعيشه في المرحلة الثانية.

“كلما زارني الشجر البابلي

أدخلته سلالة العواصف ثم انتسبت إليه

ومضيت لأبحث عنه

في كتب لم أعد أتذكر أين هي الآن

منذ فارقتها عناوينها

وسأسأل عنه بلادا جفته

وأسأله

عن بلاد إذا ما رحلنا إليها معا

أتراها ستعرفنا؟”.

إنسانية سعيد هي المنجم الذي يستخرج منه ألعابه اللغوية التي يمتزج فيها الحس العاطفي برغبة عقلانية في الذهاب إلى جوهر المعنى

 

“في إسبانيا كنت قشتاليا في القشتاليين، وأندلسيا في الأندلسيين، وغجريا في الغجر”. يقول حميد سعيد في إشارة إلى ما تركته إقامته في إسبانيا من أثر عميق في نفسه. هو ما ورد ذكره في قصائد كتبها في أوقت لاحقة. هل كان الشاعر يكتب سيرته شعرا؟

شيء من ذلك القبيل قد حدث من غير أن يكون مقصودا لذاته. ففي كل قصائده تقريبا هناك جانب سردي. أحيانا تتسلل سطور نثرية هي في الحقيقة جزء من ذلك السرد الخفي. يبقيها الشاعر كما وردت في خياله ولا يزعجه أن الإيقاع قد مر بلحظة توقف ومن ثم استأنف حركته. تلك السطور ضرورية من أجل أن تكتمل التفاتة الشاعر إلى حياته وهو يُخفي غصّته كما لو أنه لا يريد أن يلوح لأحد كان قد اتخذ من ماضيه بيتا.

تلك خصوصيته في الشعر العراقي. لم يكن انفعاله ليطغى بالرغم من أنه لم يكتب إلا منفعلا وعن موضوعات يدعو التفاعل معها إلى الانفعال. وكما أرى فإن السيطرة على الانفعال الشخصي هي انعكاس لشخصيته. لقد عالج النثر بطريقة أفقدته طابعه الميال إلى الحكائية لينتمي إلى الشعر.

يقول الشاعر “كانت البنية الدرامية وما زالت من مكونات قصيدتي منذ بداياتها. حين صدرت مجموعتي الشعرية الأولى “شواطئ لم تعرف الدفء” رأى ناقدان مهمان هما الدكتور عزالدين إسماعيل ومحمد مبارك ما تضمنته قصائدها من توجه درامي بل اقترحا عليّ أن أكتب مسرحا شعريا”.

صدرت كتب نقدية كثيرة عن شعر حميد سعيد. لكنّ كتابا واحدا يمكن أن يستوقف المرء لغرابة عنوانه. ذلك الكتاب هو “النشيد البابلي ــ موسوعة عن الشاعر حميد سعيد”، أكثر من ألف صفحة خصصت لتوثيق سيرة الشاعر والحوارات التي أجريت معه والمقالات التي كُتبت عنه وشهادات عدد كبير من معارفه وأصدقائه. هي سيرة أدبية لم يكتبها هو.

الشاعر الذي استحضر شخصيات من التاريخين الواقعي والخيالي على حد سواء، معبرا عن امتزاجه بها حين وضع صوته على أصواتها وجد أخيرا أن هناك مَن اكتشف أن حياته وشعره تستحقان أن تكونا موضوعا لموسوعة. ذلك جهد نادر من نوعه أسس لمرجعية لا تخلو المرجعيات العالمية من شبيهاتها. ولكن هل كان الحب وحده هو الدافع لتأليف تلك الموسوعة؟

لا يحتاج إلا لشعره

موقف سعيد من رواد القصيدة العربية الحديثة لم يكن قائما على القطيعة مثلما فعل الآخرون من أبناء جيله
موقف سعيد من رواد القصيدة العربية الحديثة لم يكن قائما على القطيعة مثلما فعل الآخرون من أبناء جيله

عاش سعيد لزمن طويل في قلب الثقافة العراقية (العربية إلى حدّ ما) كائنا إيجابيا متفاعلا. لا لأنه أدار مؤسسات ولا لأنه حظي بمناصب بل لأنه أضفى على سلوكه الوظيفي طابعا إنسانيا طغت بسببه مناقبه الأخلاقية على شعره. وهو ما ظلمه.

 

البردُ شديدٌ في عمّانْ..

والرجلُ السبعينيّ.. يدبّ على غير هدى..

يتدفَّأُ بالسعي إلى حيث.. سيلقى الأصحابْ

وعندَ البابْ

يتذكَّرُ.. أيام البرد ببغدادْ..

وهي ترافقه.. أينَ هي الآن؟

كانت تضحكُ.. حين يناديها.. فرط الرمانْ

وهل ظلَّ البردُ هناك.. كما كانْ؟

أم هاجرَ..؟

كي يبحث عنها.. في كل مكان؟

يمرُّ اللونُ الغامضُ كلَّ مساءْ

حيث يكون الرجل السبعيني.. مُطلاً من شرفة منزله..

يتساءل.. من هذا اللون الغامض؟

ثمَ تخيله.. امرأةً

أعطاها اسماً..

واختار لها زمناً.. وحكاياتٍ

كان يقول.. لماذا لا تسأل عني؟

أو ما كنا من قبلُ معاً؟

مرَّ اللون الغامض يوماً.. قبل غروب الشمسْ

فرآه الرجل السبعيني.. وكان

بستاني الجيرانْ.

ذات يوم سألته وكنت قد ذهبت للقائه في مقهاه بعمان “لمَ لا تكتب مذكرات حياتك العملية؟” ابتسم وقال “لأنها تتعلق بالآخرين. ما من شيء يفخر به حين يقدم المساعدة إلى الآخرين. إنه مجرد وسيط”.

سعيد المثقف بعمق هو متواضع بعمق. فهو بالرغم من المواقف السلبية التي اتخذها مثقفون عرب من العراق بسبب انتهازيتهم لم يكن نادما على موقفه الإنساني منهم. ولكن هل يدخل ذلك في نطاق الحديث عنه شاعرا؟

مشكلة سعيد أنه ليس كالآخرين. لقد امتزج الشعري بالحياتي في سيرته. فهو بالنسبة إلى الكثيرين لا يمكن أن يكون الشاعر وحده. حتى الشيوعيون الذين عادوا النظام الذي كان حميد سعيد جزءا منه يستثنونه من هجائهم.

لا يحتاج سعيد إلى أن يقول “لقد كنت شاعرا أيضا”. نتاجه الشعري الغزير والعميق يؤكد أنه لا يزال واحدا من كبار الشعراء العرب.